ناقشنا في المقال السابق العنف في الوسط العربي كظاهرة ليست عابرة أو استثنائية، بل نتيجة تراكم ظروف وعوامل مكّنته من النمو والانتشار. بيّنا أن الدراسات المختلفة تجمع على وجود علاقة واضحة بين الظروف الاقتصادية الصعبة وانتشار العنف، حيث أن تزامن التهميش الاقتصادي والبطالة مع ارتفاع معدلات الجريمة في المجتمع العربي ليس مجرد مصادفة، بل نتيجة سببية مباشرة.
في حين أن المناطق الأخرى في البلاد تتمتع بوضع اقتصادي أفضل ومعدلات جريمة أقل، فإن الوسط العربي يعاني من تدهور اقتصادي انعكس على أشكال العنف المتنوعة التي ازدادت بشكل ملحوظ خلال العقدين الماضيين. ومن هنا كان التساؤل: هل تحسين الأوضاع الاقتصادية يمكن أن يساهم في تقليل العنف والحد منه؟
وقد أشارت الدراسات إلى أن الجواب هو “نعم”. فالأمثلة عديدة، منها ما شهده المجتمع في مدينة عكا من نزيف دم متأثر بحالة الفقر المسيسة، التي تهدف إلى زعزعة الاستقرار وزرع اليأس في نفوس أبنائها. هذا يترافق مع سياسات تهويد تستهدف سكان المدينة وهويتهم الوطنية، في إطار مخططات متواصلة تقودها أطراف مشبوهة تسعى للنيل من هذا البلد وأهله.
غياب الردع ودور الشرطة في تعزيز العنف
لكن الموضوع أعقد من أن يُختزل في عامل اقتصادي فقط، إذ أن هناك عوامل أخرى تُثري العنف وتساهم في انتشاره. وأبرز هذه العوامل هو غياب الردع من قبل الشرطة والجهات الرسمية.
قال الحكماء قديمًا: ” إن الله لَيَزَعُ بالسلطان ما لا يَزَعُ بالقرآن” بمعنى أن السلطة، من خلال قوة القانون والنظام، قادرة على منع الشر والجرائم أكثر من النصائح والمواعظ. حتى في النصوص الدينية، توازن الله بين الترغيب والترهيب، ليحذر من العقاب بجانب وعد الثواب، لأن التوجيه الثقافي والديني والوطني وحده غير كافٍ للتأثير على العقول التي انحرفت والنفوس التي اتخذت الجريمة وسيلة لتحقيق رغباتها في النفوذ المالي والاجتماعي.
الردع يجب أن يكون العلاج الأخير للحد من الجريمة، كما قيل قديمًا: “آخر العلاج الكي بالنار“. من هنا، يجب أن تضطلع الشرطة بدور حاسم يبدأ باكتشاف الجرائم قبل وقوعها، ثم متابعة خيوط الجريمة وكشف ملابساتها ودوافعها وأطرافها، وصولاً إلى اتخاذ التدابير اللازمة لمنع تكرارها. بعد ذلك، يتعين القبض على المتورطين وتنفيذ العقوبات الرادعة بحقهم.
في البداية، لا بد من تطبيق القوانين بحزم ضد مرتكبي الجنايات والجرائم والمخالفات، حتى يصبح الردع حاضرًا ويحد من انتشار العنف. في العلوم الاجتماعية وعلم الإجرام، تشير الدراسات إلى أن زيادة عدد أفراد الشرطة المؤهلين والمدربين والمجهزين بأحدث المعدات تؤدي إلى خفض معدلات الجريمة بشكل ملحوظ. هذه الحقيقة مثبتة في تجارب الدول المتقدمة مثل فرنسا وإسبانيا وإيطاليا، حيث تمكنت هذه الدول من مكافحة الجريمة، خاصة الجريمة الدولية المنظمة، بفضل قوة أجهزة الشرطة المجهزة ماديًا ومعنويًا.
الحاجة إلى موارد كافية وشرطة مؤهلة:
عدد أفراد الشرطة يجب أن يتناسب مع حجم المنطقة وعدد سكانها لتغطية المنطقة بالكامل، حتى في حال وقوع أكثر من جريمة في الوقت نفسه. كما يجب أن يتحلى رجال الشرطة بالشعور بالمسؤولية والواجب، ليكونوا قادرين على التعامل مع الحالات الطارئة بكفاءة.
الدافع الداخلي للشرطي – من إخلاص وتفانٍ – هو العامل الأهم الذي يدفعه للقيام بمهامه بإخلاص حتى لو تطلب ذلك التضحية. فالشرطة يجب أن تكون في خدمة الشعب، قائمة على المصداقية والشجاعة، وتنظر إلى المواطنين على أنهم متساوون أمام القانون دون أي تمييز.
تساؤلات حول دور الشرطة في الوسط العربي:
في هذا السياق، يحق لنا أن نتساءل: هل تقوم الشرطة بدورها الفعال والرائد في كبح مظاهر العنف المتزايدة في الوسط العربي، والتي جعلت المجتمع العربي يتصدر قائمة الجرائم الخطيرة في البلاد؟
على سبيل المثال، لو كان أداء الشرطة في المدن والبلدات العربية مثل عكا وسخنين والناصرة وأم الفحم وكفر قرع يماثل أدائها في تل أبيب وهرتسليا ونتانيا ورمات غان، فهل كانت أوضاعنا لتصل إلى هذا المستوى؟ وهل كانت نسبة الجريمة لتظل بهذه الارتفاعات المهولة؟
ظاهرة الوساطة والمحسوبيات:
من بين أبرز العوامل التي تقوض عمل الشرطة في الوسط العربي هي ظاهرة “المخترة” أو الوساطة التقليدية، حيث يتدخل زعماء محليون لإطلاق سراح مرتكبي الجرائم. هذه الوساطة تؤدي في كثير من الأحيان إلى إطلاق سراح الجناة خلال ساعات من اعتقالهم، مما يثير الاستغراب حول استمرار هذا السلوك في نظام يدّعي الالتزام بالقانون.
إن هذه الظاهرة الخارجة عن القانون لها طرفان أساسيان: الزعيم الذي يتوسط للإفراج عن المجرم، ورجل الشرطة الذي يستجيب للوساطة. هذا التعاون غير القانوني يجعل الطرفين شريكين في الجريمة، لأنهما وفرا الحماية للجاني وشجعاه على تكرار أفعاله.
ازدواجية المعايير وتطبيق القانون:
وهنا يثار تساؤل: ما هي المصلحة المتبادلة التي تدفع مسؤولًا في جهاز الشرطة لإدارة ظهره للقانون والتغاضي عن الجريمة؟ وكيف تُغلق هذه الملفات القانونية؟ هل يمكن تصور أن تنجح هذه الوساطة في الإفراج عن معتقل عربي شارك في مظاهرة وطنية مثل يوم الأرض أو ذكرى النكبة؟ الإجابة، بالطبع، هي النفي.
الحاجة إلى صرامة في تطبيق القانون:
في النهاية، يجب أن يُطبّق القانون بصرامة ودون تهاون ضد مرتكبي الجرائم. إذا كان الاقتصاد المتدهور والتهميش والبطالة عوامل تساهم في ارتفاع العنف، فإن غياب الردع وتواطؤ الشرطة يعززان هذه الظاهرة ويوفران بيئة خصبة لازدهار الجريمة.